سورة المائدة - تفسير تفسير ابن عطية

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (المائدة)


        


الكتب في هذه الآية هو حقيقة كتب في الألواح، وهو بالمعنى كتب فرض وإلزام، والضمير في {عليهم} لبني إسرائيل وفي {فيها} للتوراة، وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر {أن النفس بالنفس} بنصب النفس على اسم {أن} وعطف ما بعد ذلك منصوباً على {النفس} ويرفعون {والجروحُ قصاص} على أنها جملة مقطوعة. وقرأ نافع وحمزة وعاصم بنصب ذلك كله. و{قصاص} خبر {أن} وروى الواقدي عن نافع أنه رفع {والجروحُ} وقرأ الكسائي {أن النفسَ بالنفس} نصباً ورفع ما بعد ذلك، فمن نصب {والعينَ} جعل عطف الواو مشركاً في عمل {أن} ولم يقطع الكلام مما قبله. ومن رفع {والعينُ} فيتمثل ذلك من الأعراب أن يكون قطع مما قبل، وصار عطف الواو عطف جملة كلام لا عطف تشريك في عامل، ويحتمل أن تكون الواو عاطفة على المعنى لأن المعنى لأن معنى قوله: {وكتبنا عليهم أن النفس بالنفس} قلنا لهم النفس بالنفس ومثله لما كان المعنى في قوله تعالى: {يطاف عليهم بكأس من معين} [الصافات: 45] يمنحون كأساً من معين عطف وحوراً عيناً على ذلك، ويحتمل أن يعطف قوله {والعين} على الذكر المستتر في الطرق الذي هو الخبر وإن لم يؤكد المعطوف عليه بالضمير المنفصل كما أكد في قوله تعالى: {إنه يراكم هو قبيلة من حيث لا ترونهم} [الأعراف: 27] وقد جاء مثله غير مؤكد في قوله تعالى: {ما أشركنا ولا آباؤنا} [الأنعام: 148].
قال القاضي أبو محمد: ولسيبويه رحمه الله في هذه الآية أن العطف ساغ دون توكيد بضمير منفصل لأن الكلام طال ب {لا} في قوله: {ولا آباؤنا} فكانت {لا} عوضاً من التوكيد كما طال الكلام في قولهم حضر القاضي اليوم امرأة، قال ابو علي: وهذا إنما يستقيم أن يكون عوضاً إذا وقع قبل حرف العطف فهناك يكون عوضاً من الضمير الواقع قبل حرف العطف، فأما إذا وقع بعد حرف العطف فلا يسد مسد الضمير، ألا ترى أنك قلت حضر امرأة القاضي اليوم لم يغن طول الكلام في غير الموضع الذي ينبغي أن يقع فيه.
قال القاضي أبو محمد: وكلام سيبويه متجه على النظر النحوي وإن كان الطول قبل حرف العطف أتم فإنه بعد حرف العطف مؤثر لا سيما في هذه الآية، لأن {لا} ربطت المعنى إذ قد تقدمها نفي ونفت هي أيضاً عن الآباء فتمكن العطف، قال أبو علي ومن رفع {والجروحُ قصاص} فقطعه مما قبله فإن ذلك يحتمل هذه الوجوه الثلاثة التي احتملها رفع والعين، ويجوز أن يستأنف والجروح ليس على أنه مما كتب عليهم في التوراة، لكن على استئناف إيجاب وابتداء شريعة.
ويقوي أنه من المكتوب عليهم نصب من نصبه. وروى أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأ {أنْ النفسُ بالنفس} بتخفيف {أن} ورفع {النفسُ} ثم رفع ما بعدها إلى آخر الآية. وقرأ أبيّ بن كعب بنصب {النفس} وما بعدها ثم قرأ: {وأن الجروح قصاص} بزيادة {أن} الخفيفة ورفع {الجروحُ}.
ومعنى هذه الآية الخبر بأن الله تعالى كتب فرضاً على بني إسرائيل أنه من قتل نفساً فيجب في ذلك أخذ نفسه ثم هذه الأعضاء المذكورة كذلك ثم استمر هذا الحكم في هذه الأمة بما علم من شرع النبي صلى الله عليه وسلم وأحكامه. ومضى عليه إجماع الناس، وذهب قوم من العلماء إلى تعميم قوله: {النفس بالنفس} فقتلوا الحر بالعبد والمسلم بالذمي، والجمهور على أنه عموم يراد به الخصوص في المتماثلين. وهذا مذهب مالك وفيه الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «لا يقتل مسلم بكافر» وقال ابن عباس رضي الله عنه: رخص الله لهذه الأمة ووسع عليها بالدية ولم يجعل لبني إسرائيل دية فيما نزل على موسى وكتب عليهم.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذه الآية بيان لفساد فعل بني إسرائيل في تعزر بعضهم على بعض وكون بني النضير على الضعف في الدية من بني قريظة أو على أن لا يقاد بينهم بل يقنع بالدية، ففضحهم الله تعالى بهذه الآية وأعلم أنهم حالفوا كتابهم، وحكى الطبري عن ابن عباس: كان بين حيين من الأنصار قتال فصارت بينهم قتلى وكان لأحدهما طول على الآخر فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فجعل الحر بالحر والعبد بالعبد. قال الثوري: وبلغني عن ابن عباس أنه قال ثم نسختها {النفس بالنفس}.
قال القاضي أبو محمد: وكذلك قوله تعالى: {والجروح قصاص} هو عموم يراد به الخصوص في جراح القود، وهي التي لا يخاف منها على النفس، فأما ما خيف منه كالمأمومة وكسر الفخذ ونحو ذلك فلا قصاص فيها. والقصاص مأخوذ من قص الأثر وهو اتباعه. فكأن الجاني يقتص أثره ويتبع فيما سنه فيقتل كما قتل، وقوله تعالى: {فمن تصدق به فهو كفارة له} يحتمل ثلاثة معان، أحدها أن تكون من للجروح أو ولي القتيل. ويعود الضمير في قوله: {له} عليه أيضاً، ويكون المعنى أن من تصدق بجرحه أو دم وليه فعفا عن حقه في ذلك فإن ذلك العفو كفارة له عن ذنوبه ويعظم الله أجره بذلك ويكفر عنه، وقال بهذا التأويل عبد الله بن عمر وجابر بن زيد وأبو الدرداء وذكر أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه إلا رفعه الله بذلك درجة وحط عنه خطيئة، وذكر مكي حديثاً من طريق الشعبي أنه يحط من ذنوبه بقدر ما عفا من الدية والله أعلم.
وقال به أيضاً قتادة والحسن، والمعنى الثاني أن تكون من للجروح أو ولي القتيل، والضمير في {له} يعود على الجارح أو القاتل إذا تصدق المجروح أو على الجارح بجرحه وصح عنه: فذلك العفو كفارة للجارح عن ذلك الذنب، فكما أن القصاص كفارة فكذلك العفو كفارة، وأما أجر العافي فعلى الله تعالى، وعاد الضمير على من لم يتقدم له ذكر لأن المعنى يقتضيه، قال بهذا التأويل ابن عباس وأبو إسحاق السبيعي ومجاهد وإبراهيم وعامر الشعبي وزيد بن أسلم، والمعنى الثالث أن تكون للجارح أو القاتل والضمير في {له} يعود عليه أيضاً، والمعنى إذا جنى جان فجهل وخفي أمره فتصدق هو بأن عرف بذلك ومكن الحق من نفسه فذلك الفعل كفارة لذنبه، وذهب القائلون بهذا التأويل إلى الاحتجاج بأن مجاهداً قال إذا أصاب رجل رجلاً ولم يعلم المصاب من أصابه فاعترف له المصيب فهو كفارة للمصيب، وروي أن عروة بن الزبير أصاب عين إنسان عند الركن وهم يستلمون فلم يدر المصاب من أصابه فقال له عروة أنا أصبتك وأنا عروة بن الزبير. فإن كان بعينك بأس فإنها بها.
قال القاضي أبو محمد: وانظر أن {تصدق} على هذا التأويل يحتمل أن يكون من الصدقة ومن الصدق، وذكر مكي بن أبي طالب وغيره أن قوماً تأولوا الآية أن المعنى {والجروح قصاص} فمن أعطى دية الجرح وتصدق بذلك فهو كفارة له إذا رضيت منه وقبلت.
قال القاضي أبو محمد: وهذا تأويل قلق. وقد تقدم القول على قوله تعالى: {ومن لم يحكم بما أنزل الله} الآية. وفي مصحف أبيّ بن كعب {ومن يتصدق به فإنه كفارة له}.


{قفينا} تشبيه كأن مجيء عيسى كان من قفاء مجيء النبيين وذهابهم، والضمير في {آثارهم} للنبيين المذكورين في قوله: {يحكم بها النبيون} [المائدة: 44] و{مصدقاً} حال مؤكدة و{التوراة} بين يدي عيسى لأنها جاءت قبله كما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بين يدي الساعة، وقد تقدم القول في هذا المعنى في غير موضع، و{الإنجيل} اسم أعجمي ذهب به مذهب الاشتقاق من نجل إذا استخرج وأظهر، والناس على قراءته بكسر الهمزة إلا الحسن بن أبي الحسن فإنه قرأ {الأنجيل} بفتح الهمزة، وقد تقدم القول على ذلك في أول سورة آل عمران. و{الهدى} الإرشاد والدعاء إلى توحيد الله وإحياء أحكامه. و{النور} ما فيه مما يستضاء به. و{مصدقاً} حال مؤكدة معطوفة على موضع الجملة التي هي فيه هدى فإنها جملة في موضع الحال. وقال مكي وغيره: {مصدقاً} معطوف على الأول.
قال القاضي أبو محمد: وفي هذا قلق من جهة اتساق المعاني. وقرأ الناس {وهدىً وموعظةً} بالنصب. وذلك عطف على {مصدقاً} وقرأ الضحاك {وهدى وموعظةٌ} بالرفع وذلك متجه. وخص {المتقين} بالذكر لأنهم المقصود به في علم الله وإن كان الجميع يدعى ويوعظ ولكن ذك على غير المتقين عمى وحيرة.
وقرأ أبيّ بن كعي {وأن ليحكم} بزيادة أن. وقرأ حمزة وحده {ولِحكمَ} بكسر اللام وفتح الميم على لام كي ونصب الفعل بها، والمعنى وآتيناه الإنجيل ليتضمن الهدى والنور والتصديق ليحكم أهله بما أنزل الله فيه، وقرأ باقي السبعة {ولْيحكم} بسكون اللام التي هي لام الأمر وجزم الفعل. ومعنى أمره لهم بالحكم أي هكذا يجب عليهم. وحسن عقب ذلك التوقيف على وعيد من خالف ما أنزل الله. ومن القراء من يكسر لام الأمر ويجزم الفعل وقد تقدم نظير هذه الآية، وتقريره هذه الصفات لمن لم يحكم بما أنزل الله هو على جهة التأكيد وأصوب ما يقال فيها أنها تعم كل مؤمن وكل كافر، فيجيء كل ذلك في الكافر على أتم وجوهه، وفي المؤمن على معنى كفر المعصية وظلمها وفسقها.
وأخبر تعالى بعد بنزول هذا القرآن، وقوله: {بالحق} يحتمل أن يريد مضمناً الحقائق من الأمور فكأنه نزل بها، ويحتمل أن يريد أنه أنزله بأن حق ذلك لا أنه وجب على الله ولكن حق في نفسه وأنزله الله تعالى صلاحاً لعباده، وقوله: {من الكتاب} يريد من الكتب المنزلة. فهو اسم جنس، واختلفت عبارة المفسرين في معنى {مهيمن}. فقال ابن عباس: {مهيمناً} شاهداً. وقال أيضاً مؤتمناً.
وقال ابن زيد: معناه مصدقاً، وقال الحسن بن أبي الحسن أميناً، وحكى الزجاج رقيباً ولفظة المهيمن أخص من هذه الألفاظ، لأن المهيمن على الشيء هو المعنيّ بأمره الشاهد على حقائقه الحافظ لحاصله ولأن يدخل فيه ما ليس منه والله تبارك وتعالى هو المهيمن على مخلوقاته وعباده، والوصي مهيمن على محجوريه وأموالهم، والرئيس مهيمن على رعيته وأحوالهم، والقرآن جعله الله مهيمناً على الكتب يشهد بما فيها من الحقائق وعلى ما نسبه المحرفون إليها فيصحح الحقائق ويبطل التحريف، وهذا هو شاهد ومصدق ومؤتمن وأمين، و{مهيمن} بناء اسم فاعل، قال أبو عبيدة: ولم يجئ في كلام العرب على هذا البناء إلا أربعة أحرف. وهي مسيطر ومبيطر ومهيمن ومجيمر. وذكر أبو القاسم الزجّاج في شرحه لصدر أدب الكتاب ومبيقر. يقال بيقر الرجل إذا سار من الحجاز إلى الشام ومن أفق إلى أفق، وبيقر أيضاً لعب البيقرا وهي لعب يلعب بها الصبيان، وقال مجاهد قوله تعالى: {ومهيمناً عليه} يعني محمداً صلى الله عليه وسلم هو مؤتمن على القرآن.
قال القاضي أبو محمد: وغلط الطبري رحمه الله في هذه الألفاظ على مجاهد فإنه فسر تأويله على قراءة الناس {مهيمِناً} بكسر الميم الثانية فبعد التأويل ومجاهد رحمه الله إنما يقرأ هو وابن محيصن {ومهيمَناً} عليه بفتح الميم الثانية فهو بناء اسم المفعول. وهو حال من الكتاب معطوفة على قوله: {مصدقاً} وعلى هذا يتجه أن المؤتمن عليه هو محمد صلى الله عليه وسلم و{عليه} في موضع رفع على تقدير أنها مفعول لم يسم فاعله. هذا على قراءة مجاهد وكذلك مشى مكي رحمه الله، وتوغل في طريق الطبري في هذا الموضع قال أبو العباس محمد بن يزيد المبرد رحمه الله: {مهيمن} أصله {مويمن} بني من أمين، وأبدلت همزته هاء كما قالوا أرقت الماء وهرقته، قال الزجاج: وهذا حسن على طريق العربية، وهو موافق لما جاء في التفسير من أن معنى {مهيمن} مؤتمن، وحكى ابن قتيبة هذا الذي قال المبرد في بعض كتبه، فحكى النقاش أن ذلك بلغ ثعلباً فقال: إن ما قال ابن قتيبة رديء، وقال هذا باطل، والوثوب على القرآن شديد وهو ما سمع الحديث من قوي ولا ضعيف وإنما جمع الكتب، انتهى كلام ثعلب.
قال القاضي أبو محمد: ويقال من مهيمن هيمن الرجل على الشيء إذا حفظه وحاطه وصار قائماً عليه أميناً، ويحتمل أن يكون {مصدقاً ومهيمناً} حالين من الكاف في {إليك}. ولا يخص ذلك قراءة مجاهد وحده كما زعم مكي. قال بعض العلماء هذه ناسخة لقوله: {أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك. وقال الجمهور: إنه ليس بنسخ، وإن المعنى فإن اخترت ان تحكم {فاحكم بينهم بما أنزل الله} ثم حذر تعالى نبيه من اتباع أهوائهم أي شهواتهم وإرادتهم التي هي هوى وسول للنفس، والنفس أمّارة بالسوء فهواها مرد لا محالة، وحسن هنا دخول عن في قوله: {عما جاءك من الحق} لما كان الكلام بمعنى لا تنصرف أو لا تزحزح بحسب أهوائهم عما جاءك.
واختلف المتأولون في معنى قوله عز وجل {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} فقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه وقتادة وجمهور المتكلمين: المعنى {لكل أمة منكم جعلنا شرعة ومنهاجاً} أي لليهود شرعت ومنهاج وللنصارى كذلك وللمسلمين كذلك..
قال القاضي أبو محمد: وهذا عندهم في الأحكام، وأما في المعتقد فالدين واحد لجميع العالم توحيد وإيمان بالبعث وتصديق للرسل، وقد ذكر الله تعالى في كتابه عدداً من الأنبياء شرائعهم مختلفة، ثم قال لنبيه صلى الله عليه وسلم {أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده} [الأنعام: 90] فهذا عند العلماء في المعتقدات فقط، وأما أحكام الشرائع فهذه الآية هي القاضية فيها {لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجاً} قال القاضي أبو محمد: والتاويل الأول عليه الناس. ويحتمل أن يكون المراد بقوله: {لكل جعلنا منكم} الأمم كما قدمنا. ويحتمل أن يكون المراد الأنبياء لا سيما وقد تقدم ذكرهم وذكر ما أنزل عليهم، وتجيء الآية مع هذا الاحتمال في الأنبياء تنبيهاً لمحمد صلى الله عليه وسلم أي فاحفظ شرعتك ومنهاجك لئلا يستزلك اليهود وغيرهم في شيء منه، والمتأولون على أن الشرعة والمنهاج في هذه الآية لفظان بمعنى واحد، وذلك أن الشرعة والشريعة هي الطريق إلى الماء وغيره مما يورد كثيراً فمن ذلك قول الشاعر:
وفي الشرائع من جلان مقتنص *** بالي الثياب خفيّ الصوت مندوب
أراد في الطريق إلى المياه، ومنه الشارع وهي سكك المدن، ومنه قول الناس وفيها يشرع الباب، والمنهاج أيضاً الطريق، ومنه قول الشاعر:
ومن يك في شك فهذا نهج *** ماء رواه وطريق نهج
أراد واضحاً والمنهاج بناء مبالغة في ذلك، وقال ابن عباس وغيره: {شرعة ومنهاجاً} معناه سبيلاً وسنة.
قال القاضي أبو محمد رضي الله عنه: ويحتمل لفظ الآية أن يريد بالشرعة الأحكام، وبالمنهاج المعتقد أي وهو واحد في جميعكم، وفي هذا الاحتمال بعد، والقراء على {شِرعة} بكسر الشين وقرأ إبراهيم النخعي ويحيى بن وثاب {شَرعة} بفتح الشين، ثم أخبر تعالى بأنه لو شاء لجعل العالم أمة واحدة ولكنه لم يشأ لأنه أراد اختبارهم وابتلاءهم فيما آتاهم من الكتب والشرائع، كذا قال ابن جريج وغيره، فليس لهم إلا أن يجدّوا في امتثال الأوامر وهو استباق الخيرات، فلذلك أمرهم بأحسن الأشياء عاقبة لهم، ثم حثهم تعالى بالموعظة والتذكير بالمعاد في قوله {إلى الله مرجعكم جميعاً} والمعنى فالبدار البدار، وقوله تعالى: {فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون} معناه يظهر الثواب والعقاب فتخبرون به إخبار وإيقاع، وإلا فقد نبأ الله في الدنيا بالحق فيما اختلفت الأمم فيه.
قال القاضي أبو محمد: وهذه الآية بارعة الفصاحة جمعت المعاني الكثيرة في الألفاظ اليسيرة، وكل كتاب الله كذلك، إلا أنا بقصور أفهامنا يبين في بعض لنا أكثر مما يبين في بعض.


{وأن احكم} معطوف على {الكتاب} في قوله: {وأنزلنا إليك الكتاب} [المائدة: 48]، وقال مكي: وهو معطوف على {الحق} في قوله: {وأنزلنا إليك الكتاب بالحق} [المائدة: 48]، والوجهان حسنان، ويقرأ بضم النون من {أنُ احكم} مراعاة للضمة في عين الفعل المضارع، ويقرأ بكسرها على القانون في التقاء الساكنين، وهذه الآية ناسخة عند قوم للتخيير الذي في قوله {أو أعرض عنهم} [المائدة: 42] وقد تقدم ذكر ذلك، ثم نهاه تعالى عن اتباع أهواء بني إسرائيل إذ هي مضلة، والهوى في الأغلب إنما يجيء عبارة عما لا خير فيه، وقد يجيء أحياناً مقيداً بما فيه خير، من ذلك قول عمر بن الخطاب في قصة رأيه ورأي أبي بكر في أسرى بدر: فهوى رسول الله رأي أبي بكر، ومنه قول عمر بن عبد العزيز وقد قيل له ما ألذ الأشياء عندك؟ قال: حق وافق هوى، والهوى مقصور ووزنه فعل، ويجمع على أهواء، والهواء ممدود ويجمع على أهوية، ثم حذر تبارك وتعالى من جهتهم {أن يفتنوه} أي يصرفوه بامتحانهم وابتلائهم عن شيء مما أنزل الله عليه من الأحكام، لأنهم كانوا يريدون أن يخدعوا النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا له مراراً احكم لنا في نازلة كذا بكذا ونتبعك على دينك، وقوله تعالى: {فإن تولوا} قبله محذوف من الكلام يدل عليه الظاهر، تقديره لا تتبع واحذر، فإن حكموك مع ذلك واستقاموا فنعما ذلك وإن تولوا فاعلم، ويحسن أن يقدر هذا المحذوف المعادل بعد قوله {الفاسقون}، قوله تعالى: {فاعلم} الآية وعد للنبي صلى الله عليه وسلم فيهم، وقد أنجزه بقصة بني قينقاع وقصة قريظة والنضير وإجلاء عمر أهل خيبر وفدك وغيرهم، وخصص تعالى إصابتهم ببعض الذنوب دون كلها لأن هذا الوعيد إنما هو في الدنيا وذنوبهم فيها نوعان: نوع يخصهم كشرب الخمر ورباهم ورشاهم ونحو ذلك، ونوع يتعدى إلى النبي والمؤمنين كمعاملاتهم للكفار وأقوالهم في الدين، فهذا النوع هو الذي يوجد إليهم السبيل وبه هلكوا وبه توعدهم الله في الدنيا، فلذلك خصص البعض دون الكل، وإنما يعذبون بالكل في الآخرة، وقوله تعالى: {وإن كثيراً من الناس لفاسقون} إشارة إليهم لكن جاءت العبارة تعمهم وغيره ليتنبه سواهم ممن كان على فسق ونفاق وتولٍّ عن النبي عليه السلام فيرى أنه تحت الوعيد.
واختلف القراء في قوله تعالى: {أفحكم الجاهلية يبغون} فقرأ الجمهور بنصب الميم على إعمال فعل ما يلي ألف الاستفهام بينه هذا الظاهر بعد، وقرأ يحيى بن وثاب والسلمي وأبو رجاء والأعرج {أفحكُم} برفع الميم، قال ابن مجاهد: وهي خطأ، قال أبو الفتح: ليس كذلك ولكنه وجه غيره أقوى منه.
وقد جاء في الشعر، قال أبو النجم:
قد أصبحت أم الخيار تدعي *** عليَّ ذنباً كلُّه لم اصنع
برفع كلّ.
قال القاضي أبو محمد: وهكذا الرواية، وبها يتم المعنى الصحيح لأنه أراد التبرؤ من جميع الذنب، ولو نصب كل لكان ظاهر قوله إنه صنع بعضه، وهذا هو حذف الضمير من الخبر وهو قبيح، التقدير يبغونه ولم أصنع، وإنما يحذف الضمير كثيراً من الصلة كقوله تعالى: {أهذا الذي بعث الله رسولاً} [الفرقان: 41]، وكما تقول مررت بالذي أكرمت، ويحذف أقل من ذلك من الصفة، وحذفه من الخبر قبيح كما جاء في بيت أبي النجم، ويتجه بيته بوجهين: أحدهما أنه ليس في صدر قوله ألف استفهام يطلب الفعل كما هي في قوله تعالى: {أفحكم} والثاني أن في البيت عوضاً من الهاء المحذوفة، وذلك حرف الإطلاق أعني الياء في اصنعي فتضعف قراءة من قرأ {أفحكمُ} بالرفع لأن الفعل بعده لا ضمير فيه ولاعوض من الضمير، وألف الاستفهام التي تطلب الفعل ويختار معها النصب وإن لفظ بالضمير حاضرة، وإنما تتجه القراءة على أن يكون التقدير أفحكم الجاهلية حكم يبغون فلا تجعل يبغو خبراً بل تجعله صفة خبر يحرفون فحذف الموصوف وأقام الصفة مقامه، ومثله قول الشاعر:
وما الدهر إلا تارتان فمنهما *** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح
وقرأ سليمان بن مهران {أفحَكَمَ} بفتح الحاء والكاف والميم وهو اسم جنس، وجاز إضافة اسم الجنس على نحو قولهم منعت العراق قفيزها ودرهمها ومصر أردبها، وله نظائر.
وقال القاضي أبو محمد: فكأنه قال أفحكام الجاهلية يبغون؟ إشارة إلى الكهان الذين كانوا يأخذون الحلوان ويحكمون بحسبه وبحسب الشهوات، ثم ترجع هذه القراءة بالمعنى إلى الأولى لأن التقدير {أفحكم الجاهلية}، وقرأ ابن عامر {تبغون} بالتاء على الخطاب لهم أي قل لهم. وباقي السبعة {يبغون} بالياء من تحت، و{يبغون} معناه يطلبون ويريدون، وقوله تعالى: {ومن أحسن من الله حكماً} تقرير أي لا أحد أحسن منه حكماً تبارك وتعالى وحسن دخول اللام في قوله: {لقوم} من حيث المعنى يبين ذلك ويظهر لقوم يوقنون.

4 | 5 | 6 | 7 | 8 | 9 | 10 | 11